الانسان والحيوان عبر التاريخ

لإنسانُ… هذا الكائن الغريب الذي وُلد من ترابٍ ودم، ومنذ اللحظة الأولى لصرخته وهو يسير في طريقٍ طويل، طريقٍ محفوفٍ بالألم، وبالأسئلة التي لا تهدأ. لم يُولد الإنسان حكيمًا، بل خُلق ضعيفًا، جاهلًا، مُضطربًا، يُراقبُ برقَ السماء كأنه نبوءة، ويخشى زمجرة الوحوش كأنها غضبُ الآلهة. لكنه لم يستسلم. جرّب، تعلّم، فشل، ثم عاد يقف. مرّ بدروبٍ من الجوع، والتّيه، والانكسار، ذاق مرارة الفقد، وشهد مواسم الخوف تتكرر كالفصول، ومع كل ذلك لم يتوقف عن السّير.

في كل عصرٍ، وفي كل رقعة من الأرض، حمل الإنسان حُلماً في عينيه، وإن لم يعرف له اسمًا. حُلُم أن يرتقي، أن يحيا بكرامة، أن يُضيء ليله بنار اخترعها، أو بفكرة تخرج من عقله، أو برحمةٍ تولد في قلبه. مرّ عبر العصور، من عصور الصمت، إلى عصور الكلمات، ثم عصور الحديد، والذهب، والشرائع. كل خطوة خطاها كانت وليدة صراع، وكل فكرةٍ نمت في عقله كانت ثمرة جرح. لم تكن الرحلة سهلة، بل كانت طويلة، مليئةٌ بالألم، بالحروب، بالخوف، بالتيه، لكن شيئًا ما في جوهره كان يدفعه نحو النور، حتى إن لم يرَه.

الإنسانُ اليوم، هو ابنُ كل تلك المحطات، يحمل في داخله ميراث أجداده الذين تساقطوا على جوانب هذا الطريق الطويل. هو لم يصل بعد، لكنه ما زال يركض. يركض لا ليهرب، بل ليبحث. يبحث عن المعنى، عن السلام، عن توازنٍ بين طموحه وغروره، بين علمه وغريزته، بين سعيه للسيادة على الأرض وسعيه لفهم نفسه.

وربما لا يعلم الإنسان على وجه الدقة ما هو هذا الهدف الكبير الذي يسعى إليه، لكنه يشعر به، يحسّ به في كل لحظة تأمل، في كل شهقة أمٍّ تنظر إلى وليدها، في كل يدٍ تُصلح جدارًا، أو تُواسي قلبًا.

هدفه الخفي؟ أن يرتفع، لا ليعلو على غيره، بل ليعلو على خوفه، على جهله، على فوضاه. أن يصير سيدًا لا للتراب فقط، بل لسلوكه، لفكره، لوجوده ذاته. أن يصل يومًا إلى تلك اللحظة التي لا يكون فيها مؤذياً، بل مصلحًا. لا غازياً، بل حامياً. لا متملكًا، بل حكيمًا.

هذه هي رحلة الإنسان… جرحٌ طويل، لكن فيه بذور الشفاء. وصراع مرير، لكن فيه نشيدٌ صاعد، نشيدُ النضوج.

كانت المعارك قديمًا بين الإنسان والحيوان معارك خصوم حقيقيين، لا يعلو فيها صوت غير صوت الغريزة، ولا تحكمها قوانين غير قانون البقاء للأقوى. كان الحيوان مفترسًا بطبعه، يقاتل ليأكل أو ليحمي أرضه أو أشباله، والإنسان من جهته كان يقاتل إما لأنه جائع أو خائف أو ليثبت سيطرته في أرضٍ لا تعترف إلا بمن ترويها أقدامه، في تلك الأزمنة، لم تكن هناك حكايات بطولات مصنوعة أو رموز أسطورية، بل كانت الساحة ميدان اختبار مباشر بين مخالب الحيوان وعدة الإنسان البدائية، وكان الأسد في مقدمة هذه السباع، مهابًا مهاجمًا لا يرحم، ينقضّ كأنه زلزال، وكانت المواجهة بينه وبين الإنسان لحظة فاصلة، من يقف ومن يسقط، كانت تلك المواجهات أحيانًا تُخلّد، إما في ذاكرة الرواية الشعبية أو في رسم أو غلاف مجلة كما نرى في الصورة الثانية، حيث يُجسد الإنسان على هيئة بطل جسور يتشبث برقبة الأسد في لحظة عنف هائلة، وكأنها معركة حياة أو موت، بينما يظهر في الصورة الأولى من ملصق أعواد الثقاب رجلٌ شبه عارٍ في مواجهة أسد، حاملاً رمحه ومتلحفًا بشيء من الجرأة، لا تزال فيها تلك الرؤية الرمزية للمجابهة بين الحيوان والإنسان، الجبال في الخلفية تلوّح بأن الأرض ليست سهلة، ولا المعركة كذلك، وحتى عندما يكون الغرض تجاريًا كملصق تجاري لصناعة الكبريت، فإن صورة الأسد حاضرة بوصفه رمزًا للقوة، ورمزًا لخطر محتمل يوشك أن ينقضّ في أي لحظة، وما بين هذه الرموز، وما بين تلك الصور، نكتشف أن الحيوان لم يكن عدوًا بالمعنى الشخصي، بل كان خصمًا طبيعيًا، تفرضه ظروف البيئة، وفقر الإنسان القديم في السلاح أو في المأوى، وكانت كل مواجهة درسا في التكتيك والنجاة والبقاء، فالإنسان الذي لا يستطيع أن يصطاد أسدًا، لن يستطيع أن يحمي قريته أو يطعم صغاره، وكان ذلك الإنسان القديم يرى في تغلبه على الأسد أو النمر أو الذئب معنى للرجولة والبطولة والهيبة، ولذلك لم يكن مجرد صراع جسدي بل صراع رمزي كذلك، فالمعركة بين الإنسان والأسد كانت انعكاسًا لمعركة أوسع بين الحضارة والوحشية، بين الحيلة والقوة، بين الحرف والعضلة، وكان بعض البشر، سواء في الأساطير أو في التقاليد أو حتى في القصص المصورة، يُصوَّرون على أنهم يتغلبون على الأسود بقبضاتهم المجردة أو بالحيلة، وكأنهم يواجهون الطبيعة كلها ويحاولون إخضاعها، بينما بقي الأسد دائمًا في عيون الناس صورة لصوت الغابة، لقوة لم يتم تدجينها بعد، وهكذا نستطيع أن نقرأ في كل صورة قديمة تحكي عن هذا الصراع، عن تلك الندية بين الإنسان والوحش، معاني كثيرة تتجاوز مجرد الضراوة، لتقول لنا شيئًا عن كيف يرى الإنسان نفسه، وعن كيف بنى أسطورته وسط الغابات، بين زمجرة الأسد، وطعنة رمح في لحظة غروب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *