
الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت
فكرة وجود الله عند ديكارت: بين الشك واليقين
ديكارت فيلسوف فرنسي عاش في القرن السابع عشر.
عُرف بمنهجه القائم على الشك، حتى في الأشياء التي نعتبرها بديهية.
بدأ مشروعه الفلسفي بشك جذري، فقال: “سأشك في كل شيء حتى أجد يقينًا واحدًا لا يُمكن الشك فيه”.
من هنا خرج بجملته الشهيرة: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”.
التفكير – بالنسبة له – هو أول دليل على الوجود.
لكن، بعد أن أثبت وجود نفسه، طرح سؤالًا أعمق: من أين جاءتني فكرة الله؟
ديكارت لاحظ أنه يحمل في ذهنه فكرة “الله”:
كائن كامل، لا محدود، عليم، قدير، وخيّر تمامًا.
لكن ديكارت إنسان ناقص، محدود، يخطئ وينسى.
فكيف لعقل ناقص أن يولّد فكرة عن كائن كامل؟
هل يمكن أن تأتي هذه الفكرة من خيال الإنسان؟
لا، لأن الخيال لا يستطيع اختراع شيء أعظم مما يعرف.
يقول ديكارت: سبب وجود فكرة “الكمال” في عقلي لا يمكن أن يكون أنا.
لأنني ناقص، ولا يمكن للناقص أن يولد فكرة عن الكامل من ذاته.
وبالتالي، لا بد أن يكون هناك “موجود كامل” هو الذي غرس هذه الفكرة في عقلي.
تمامًا كما أن الختم الحقيقي يترك أثره في الطين، كذلك الله وضع بصمته في عقولنا.
وهذه البصمة هي “فكرة الله”.
وهكذا استنتج ديكارت أن وجود الله ضروري لتفسير وجود هذه الفكرة في عقله.
الله – في نظر ديكارت – هو السبب الأول لوجود الإنسان، ولوجود الحقيقة، ولإمكان المعرفة.
لكن هناك نقطة إضافية مهمة:
ديكارت كان يخشى أن يكون “خداعًا” من قبل قوى شريرة (شيطان ماكر).
فكيف يتأكد من أن العالم ليس مجرد وهم؟
هنا يأتي دور الله كضامن للحقيقة.
لأن الله كامل وخيّر، فلا يمكن أن يخدعنا.
وبالتالي، ما نعرفه بوضوح وتمييز – مثل الحقائق الرياضية – يجب أن يكون صحيحًا.
إذن، وجود الله بالنسبة لديكارت ليس مجرد “إيمان ديني”.
بل هو “ركيزة فلسفية” لبناء المعرفة واليقين.
بدون الله، لا يمكن الوثوق لا بالحواس، ولا بالعقل.
فالله هو الضامن للمعرفة والوجود والعقل نفسه. وهكذا، يكون الله في فلسفة ديكارت هو الحقيقة الأعلى التي يستند إليها كل يقين
حين جلس ديكارت يفكر في الحقيقة، قرر أن يشكّ في كل شيء. لم يرد أن يصدّق أي فكرة أو معرفة فقط لأنها شائعة أو تقليدية. قال لنفسه: “ربما كل ما أظنه صحيحًا هو في الواقع وهم”. فبدأ يشك في الحواس، وفي العالم الخارجي، وفي ما تعلّمه من قبل، وحتى في وجود جسده.
لكنه لاحظ شيئًا واحدًا لا يمكن أن يشك فيه: أنه يشكّ ويفكر. وهذا يعني أنه موجود، لأنه لا يمكن أن يفكر العدم. ومن هنا ظهرت جملته المشهورة: “أنا أفكر، إذن أنا موجود.”
لكن بعد أن أثبت وجود نفسه، بقي سؤال كبير يشغل باله:
“أنا الآن متأكد أنني موجود. لكن… ما هو مصدر أفكاري؟ ومن أين جاءتني فكرة الله؟”
ديكارت كان يحمل في ذهنه فكرة واضحة جدًا عن “الله”: أنه كائن كامل، لا يحتاج إلى شيء، لا يخطئ، ولا يضعف.
ولكنه يعرف أن نفسه ليست كذلك. هو إنسان يخطئ، ينسى، يخاف، يحتاج، ويشعر بالنقص.
فسأل: “كيف لعقل ناقص مثلي أن يحمل فكرة عن كائن كامل؟”
هنا بدأت حجته الشهيرة. قال:
– لا يمكن أن تكون فكرة الكمال من اختراعي، لأني لا أملك الكمال.
– ولا يمكن أن أكون قد كوّنتها من خلال تجميع صفات من حولي، لأن كل ما حولي ناقص ومحدود.
– إذن، هذه الفكرة لا بد أن تكون قد زُرعت في عقلي من كائن كامل فعلاً.
وبهذا يصل إلى نتيجة:
وجود فكرة الله في عقلي دليل على وجود الله نفسه.
مثلما أن وجود أثر قدم في الرمال دليل على مرور إنسان، كذلك وجود فكرة “الإله الكامل” في الذهن دليل على أن هذا الإله موجود فعلاً.
ثم ذهب ديكارت إلى نقطة أعمق:
قال إن هذا الإله الكامل لا يمكن أن يكون مخادعًا، لأنه لو كان كذلك فلن يكون كاملاً، بل سيكون ناقصًا في أخلاقه.
وبالتالي، إذا كان الله موجودًا وكاملاً، فهذا يعني أن عقولنا ليست مخدوعة، وأن العالم ليس وهمًا.
ومن هنا، أصبح وجود الله ضمانًا للحقيقة، وضمانًا أن ما نعرفه بعقلنا إذا كان واضحًا ومميزًا، فهو صحيح.
بعبارة أخرى، ديكارت لم يستدل على الله بالإيمان فقط، بل بالعقل الخالص.
رأى أن فكرة الله موجودة فينا بالفطرة، وليست فكرة مخترعة.
وكان يرى أن الله هو الأساس الذي تبنى عليه كل معرفة، بل تبنى عليه ثقتنا في عقولنا وأفكارنا.