قربان السحرة

في قريةٍ نائية، مُحاطةٍ بغابات كثيفة ونهرٍ لا يعرف الشبع، عاشت عائلة فقيرة في كوخٍ مائل، يأكل الرطوبة أكثر مما يأكله الساكنون فيه. الأب “هانز” كان يعمل حطّابًا، لا تكاد يداه تتوقفان عن النزيف. والأم “ماريا” تطبخ الماء وتسمّيه حساءً لأطفالها الثلاثة.
كان أصغرهم “إيلين”، طفلًا في الثالثة، جميل الوجه، بعينين واسعتين كأنهما تعتذران عن مجيئه إلى هذا العالم.
وفي ليلةٍ مُقمرة، طرق بابهم رجل غريب. كان أنيقًا بزي لا يشبه أهل القرية، يرافقه اثنتان من بناته، مغطّات الرأس، يتفرسن في الطفل كأنهن يتفحصن عنزةً في سوق.
قال الرجل، وصوته مدهون بالعسل:
“سمعنا أنكم تعانون… ونحن نبحث عن طفل نربيه في بيتنا، نُدخله مدارس النبلاء، ونرعاه كما لو كان ابننا. مقابل ذلك، سندفع لكم عشرين قطعة ذهبية.”
ماريا نظرت إلى زوجها، والدمع يتجمد في عينيها. عشرون قطعة! هذا أكثر مما رآه هانز في عمره. البنات الثلاثة للغريب يبتسمن… واحدة منهن تهمس:
“إنه مناسب.”
لم تعرف ماريا لماذا ارتعشت من تلك الهمسة. لكنها سكتت.
بعد أسبوع، عادوا وأخذوا “إيلين”. بكت الأم، ولم تقدر أن تلمس الذهب، بينما الأب قال:
“سيعيش أفضل منّا.”
لكن الحقيقة لم تكن كذلك.
الطفل نُقل إلى قصر مهجور في طرف الجبل، حيث تسكن امرأة لا أحد يجرؤ أن يسميها، تُعرف فقط بلقب “الساحرة ذات الدم”.
الصفقة كانت قد أُبرمت: ثمن الذهب مقابل القربان.
الساحرة قالت للغريب:
“طفل بريء… روح لم تُدنّس بعد. هذا هو المفتاح. بعد ذبحه، ستُفتح لكم أبواب التجارة والذهب، وتُخصب أرضكم، وتُفك عُقد أعمالكم.”
وفي غرفة الطقوس، حيث الجدران سوداء والهواء راكد كرائحة موت قديم، وُضِع “إيلين” على حجر بارد.

لكنه لم يبكِ.
نظر إلى الساحرة بعينيه الواسعتين… ثم قال:
“أمي تحبني.”
ترددت الساحرة لحظة. ثم ضحكت.
ولكن قبل أن تمتد السكين، انطفأت الشموع كلّها، وصرخت الأرض تحت أقدامهم، وسُمعت صرخة ليست من هذا العالم.
في اليوم التالي، وُجِدت العائلة التي باعت طفلها وقد احترق كوخهم، دون نار، ودون أثر. والرجل الغني وبناته الثلاث اختفوا عن وجه الأرض.

وأما القصر المهجور، فقد صار يسكنه صمت، لا تُكسره حتى الطيور.
لكن في الغابة، يُحكى عن طفلٍ صغير، بعينين واسعتين، يظهر أحيانًا فجأة أمام الضائعين… ويهمس لهم:
“أمي تحبني. لا تبيعوا من تُحبون.”

حين صرخ الطفل , لم يعرف أحد اسمه.
كان طفلًا صغيرًا، لا يحمل سوى جسده العاري وصوته.
أخذوه من أمه مقابل ذهب كاذب، وجاؤوا به إلى السهل الحجري، حيث تنتظر “الساحرة ذات العقدة”، تلك التي تبيع الوعد مقابل الدم.
أوقفوه هناك، في وسط دائرة مرسومة بمخالب الفحم.
قالت الساحرة:
“كل شيء جاهز. القربان حاضر. فلتُفتح أبواب الذهب.”
لكن الطفل لم يبكِ.
رفع رأسه، نظر إلى السماء، وفتح فاه الصغير.
لم يكن صوته صوت بشر.
لم يكن بكاء.
كانت صرخة… صرخة اختلط فيها الطفولة والسماء والغضب.
في تلك اللحظة…
شقّت السماء نفسها، لا بصاعقة، بل بحجارة.
حجارة كبيرة، سوداء، ساخنة، سقطت كأنها مرسلة من زمن أقدم من التوراة.
الرجل الذي باعه تقوّس جسده للخلف، يديه ترتعشان.
ابنتاه أمسكتا ببعضهما، العيون شاخصة نحو العلو.
الساحرة صرخت، لا لأن الحجارة تسقط، بل لأنها شعرت أن دمها سيتجمّد قبل أن تُصاب.
لعلنا انتهينا من قصة من اجمل القصص التي ممكن ان تقال في هذا الموضوع